فصل: تفسير الآية رقم (188):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآية رقم (188):

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
قوله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} نزلت في امرئ القيس بن عباس ادّعى عليه ربيعة بن عبد ان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض فأنزل الله هذه الآية. والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل أي من غير الوجه الذي أباحه الله له. وأصل الباطل الشيء الذاهب.
فصل:
أما حكم الآية فأكل المال بالباطل على وجوه: الأول: أن يأكله بطريق التعدي والنهب والغصب. الثاني: أن يأكله بطريق اللهو كالقمار وأجرة المغنى وثمن الخمر والملاهي ونحو ذلك. الثالث: أن يأكله بطريق الرشوة في الحكم وشهادة الزور. الرابع: الخيانة وذلك في الوديعة والأمانة ونحو ذلك. وإنما عبر عن أخذ المال بالأكل لأنه المقصود الأعظم، ولهذا وقع في التعارف فلان يأكل أموال الناس بمعنى يأخذها بغير حلها {وتدلوا بها إلى الحكام} أي وتلقوا أمور تلك الأموال التي فيها الحكومة إلى الحكام. قال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه المال وليس عليه بينة فيجحد ويخاصم إلى الحكام وهو يعلم أن الحق عليه وهو آثم بمعنى وقيل: هو أن يقيم شهادة الزورعند الحاكم وهو يعلم ذلك. وقيل معناه ولا تأكلوا المال بالباطل وتنسبوه إلى الحكام، وقيل: لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حراماً وكان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالماً ولكن لا يسعني إلاّ أن أقضي بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراماً.
(ق) عن أم سلمة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض» وفي رواية: «ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها» قوله «سمع جلبة خصم» يعني أصوات خصم قوله ألحن بحجته، يقال: فلان ألحن بحجته من فلان أي أقوم بها منه وأقدر عليها، من اللحن بفتح الحاء وهو الفطنة {لتأكلوا فريقاً} أي طائفة وقطعة {من أموال الناس بالإثم} يعني بالظلم وقال ابن عباس باليمين الكاذبة وقيل بشهادة الزور {وأنتم تعلمون} يعني أنكم على الباطل.

.تفسير الآية رقم (189):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
قوله عز وجل: {يسألونك} أي يا محمد {عن الأهلة} نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً، ثم يزال ينقص حتى يعود دقيقاً كما بدا ولا يكون على حال واحد فأنزل الله: {يسألونك عن الأهلة} وكان هذا سؤالاً منهم على وجه الفائدة عن وجه الحكمة في تبيين حال الهلال في الزيادة والنقصان والأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس أول ليلة من الشهر {قل هي مواقيت للناس} جمع ميقات، والمعنى أن فعلنا ذلك لمصالح دينية ودنيوية ليعلم الناس أوقات حجهم وصومهم وإفطارهم ومحل ديونهم وأجائرهم وعدد النساء وأوقات الحيضوغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالأهلة ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة {والحج} أي وللحج، وإنما أفراد الحج بالذكر وإن كان داخلاً في جملة العبادات لفائدة عظيمة وهي أن العرب في الجاهلية كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور فأبطل الله ذلك من فعلهم وأخبر أن الحج مقصورعلى الأشهر التي عينها لفرض الحج بالأهلة، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر التي عينها الله تعالى له كما كانت العرب تفعل بالنسيء {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}.
(ق) عن البراء قال: نزلت هذه الآية فينا فكانت الأنصار إذا حجوات فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه فكأنه عير بذلك فنزلت: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها، وفي رواية كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فأنزل الله هذه الآية وقيل كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم لم يدخل حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من بابه، فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلماً يصعد منه، وإن كان من أهل الوبر دخل وخرج من خلف الخباء ولا يدخل ولا يخرج من الباب ويرون ذلك براً، وكانت الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة ومن دان بدينهم، سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيتاً البتة ولم يستظلوا بظل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً فدخل رجل من الأنصار معه وقيل كانت الحمس لا يبالون بذلك، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتاً فدخل على أثره رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت من الباب وهو محرم فأنكروا عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لم دخلت من الباب وأنت محرم فقال: رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحمسي فقال الرجل إن كنت أحمسياً فأنا أحمسي بهديك وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الزهري كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يجعلوا بينهم وبين السماء شيئاً، وكان الرجل يخرج مهلاًّ بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما خرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ثم بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل من الأنصار من بني سلمة على أثره فقال النبي صلى الله عليه وسلم لم فعلت ذلك؟ قال: لأني رأيتك دخلت فقال عليه الصلاة والسلام: إني أحمسي فقال الأنصاري وأنا أحمسي يقول أنا على دينك فأنزل الله تعالى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها} يعني في حال الإحرام وغيره {واتقوا الله لعلكم تفلحون}.

.تفسير الآية رقم (190):

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
قوله عز وجل: {وقاتلوا في سبيل الله} أي في طاعة الله وطلب رضوانه.
(ق) عن أبي موسى الأشعري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله {الذين يقاتلونكم} كان في ابتداء الإسلام أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمر بقتال من قاتله منهم بهذه الآية. قال الربيع بن أنس: هذه أول آية نزلت في القتال ثم أمر الله بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} وبقوله: {اقتلوهم حيث ثقفتموهم} فصارت آية السيف ناسخة لهذه الآية وقيل إنها محكمة ومعناها على هذا القول وقاتلوا في سبيل الله الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من لم يعدَّ نفسه للقتال كالرهبان والشيوخ والزمنى والمكافيف والمجانين فلا تقاتلوهم لأنهم لم يقاتلوكم، وهو قوله تعالى: {ولا تعتدوا} وقال ابن عباس ولا تقتلوا النساء والصبيان والشيوخ والرهبان ولا من ألقى إليكم.
(م) عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تعتدوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً. قوله: {ولا تغلوا} الغلول الخيانة وهو ما يخفيه أحد الغزاة من الغنيمة وقوله: {ولا تعتدوا} أي ولا تنقضوا العهد وقيل في معنى الآية: لا تعتدوا أي لا تبدؤوهم بالقتال فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بآية القتال قال ابن عباس: لما صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف بالبيت، فلما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء خافوا أن لا تفي قريش بما قالوا ويصدُّهم عن البيت وكره المسلمون قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} فأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم في الشهر الحرام وفي الحرم ورفع الحرج والجناح في ذلك وقال لا تعتدوا بابتداء القتال {إن الله لا يجب المعتدين}

.تفسير الآيات (191- 193):

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
قوله عز وجل: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي حيث وجدتموهم وأدركتموهم في الحل والحرم، وتحقيق القول فيه أن الله تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على القتال وفي هذه الآية أمرهم بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم {والفتنة أشد من القتل} يعني أن شركهم بالله أشد وأعظم من قتلكم إياهم في الحرم والإحرام وإنما سمي الشرك بالله فتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم. وإنما جعل أعظم من القتل لأن الشرك بالله ذنب يستحق صاحبه الخلود في النار وليس القتل كذلك، والكفر يخرج صاحبه من الأمة وليس القتل كذلك فثبت أن الفتنة أشد من القتل {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} اختلف العلماء في هذه الآية فذهب مجاهد في جماعة من العلماء إلى أنها محكمة وأنه لا يحل أن يقاتل في المسجد الحرام إلاّ من قاتل فيه وهو قوله: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} أي فقاتلوهم، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن مكة لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» فثبت بهذا تحريم القتال في الحرم إلاّ أن يقاتلوا فيقاتلوا ويكون دفعاً لهم وذهب قتادة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموه} فأمر بقتالهم في الحل والحرم. وقيل إنها منسوخة بقوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} {كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا} يعني عن القتال. وقيل عن الشرك والكفر {فإن الله غفور} يعني لما سلف {رحيم} يعني بعباده حيث لم يعاجلهم بالعقوبة {وقاتلوهم} أي وقاتلوا المشركين {حتى لا تكون فتنة} أي شرك والمعنى وقاتلوهم حتى يسلموا ولا يقبل من الوثني إلاّ الإسلام والقتل بخلاف الكتابي والفرق بينهما أن أهل الكتاب معهم كتب منزلة فيها شرائع وأحكام يرجعون إليها وإن كانوا قد حرفوا وبدلوا فأمهلهم الله تعالى بحرمة تلك الكتب من القتل وأمر بإصغارهم وأخذ الجزية منهم لينظروا في كتبهم ويتدبروها فيقفوا على الحق منها فيتبعوه كفعل مؤمني أهل الكتاب الذين عرفوا الحق فأسلموا، وأما عبد ة الأصنام فلم يكن لهم كتاب يرجعون إليه ويرشدهم إلى الحق فكان إمهالهم زيادة في شركهم وكفرهم فأبى الله عز وجل أن يرضى منهم إلاّ بالإسلام أو القتل {ويكون الدين لله} أي الطاعة والعبادة لله وحده فلا يعبد من دونه شيء {فإن انتهوا} يعني عن القتال وقيل عن الشرك والكفر {فلا عدوان} أي فلا سبيل {إلاّ على الظالمين} قاله ابن عباس فعلى القول الأول تكون الآية منسوخة بآية السيف وعلى القول الآخر الآية محكمة. وقيل: معناه فلا تظلموا إلاّ الظالمين، سمي جزاء الظالمين ظلماً على سبيل المشاكلة، وسمي الكافر ظالماً لوضعه العبادة في غير موضعها.

.تفسير الآية رقم (194):

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
قوله عز وجل: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} نزلت في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده المشركون عن البيت بالحديبية فصالح أهل مكة على أن ينصرف عامة ذلك ويرجع من قابل فيقضي عمرته فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع في ذي القعدة سنة سبع فقضى عمرته وذلك قوله تعالى: {الشهر الحرام} يعني ذا القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم عمرتكم {بالشهر الحرام} الذي صددتم فيه عن البيت {والحرمات} جمع حرمة وإنما جمعت لأنه أراد حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة الإحرام {قصاص} القصاص المساواة والمماثلة وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل، والمعنى أنهم لما منعوكم عن العمرة وأضاعوا هذه الحرمات في سنة ست، فقد وفقتم حتى قضيتموها على رغمهم في سنة سبع. وقيل: هذا في القتال، ومعناه: فإن بدؤوكم بالقتال في الشهر الحرام فاقتلوهم فيه فإنه قصاص {فمن اعتدى عليكم} أي بالقتال {فاعتدوا عليه} أي فقاتلوه {بمثل ما اعتدى عليكم} سمي الجزاء بالاعتداء على سبيل المشاكلة {واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين}.

.تفسير الآية رقم (195):

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
قوله عز وجل: {وأنفقوا في سبيل الله} يعني به الجهاد وذلك أن الله تعالى لما أمر بالجهاد والاشتغال به يحتاج إلى الانفاق فأمر به، والإنفاق هو صرف المال في وجوه المصالح الدينية كالإنفاق في الحج والعمرة وصلة الرحم والصدقة وفي الجهاد وتجهيز الغزاة وعلى النفس والعيال وغير ذلك مما فيه قربة لله تعالى لأن كل ذلك مما هو في سبيل الله لكن إطلاق هذه اللفظة ينصرف إلى الجهاد.
(خ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً لله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» يعني حسنات. عن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف» أخرجه الترمذي والنسائي {ولا تقلوا بأيديكم إلى التهلكة} قيل: الباء زائدة ومعناه لا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، والمراد بالأيدي الأنفس والمعنى ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، عبر بالأيدي عن الأنفس، وقيل الباء على أصلها وفي الكلام حذف تقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكه ما يمكن الاحتراز عنه والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه، ومعنى الآية النهي عن ترك الانفاق في سبيل الله لأنه سبب الإهلاك قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله وأن لم يكن إلاّ سهم أو مشقص ولا يقول أحدكم لا أجد شيئاً. السهم هنا هو ما يرمى به، والمشقص سهم فيه نصل عريض وقيل كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإما أن ينقطع بهم وإما أن يكونوا عالة فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله ومن لم يكن عنده شيء ينفق عليه في الغزو فلا يخرج لئلا يلقي نفسه في التهلكة وهو أنه يهلك من الجوع والعطش والمشي. وقيل نزلت الآية في ترك الجهاد.
(ت) عن أبي عمران واسمه أسلم قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس. سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكه فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلوا أقمنا في أموالنا فأصلنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم وقال حديث غريب صحيح مات أبو أيوب في آخر غزوة غزاها بأرض قسطنطينية ودفن في أصل سورها فهم يتبركون بقبره ويستسقون به.
(م) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من النفاق» قال ابن المبارك فنرى أن ذلك كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل الإلقاء إلى التهلكة هوأن يقنط من رحمة الله، وهو أن الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك على المعاصي فهو القنوط فنهى الله عن ذلك. وقيل في معنى الآية: أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق.
(خ) عن حذيفة قال: أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال نزلت في النفقة {وأحسنوا} أي بالإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته وقيل أحسنوا في الإنفاق ولا تسرفوا ولا تقتروا، نهوا عن الإسراف والإقتار في الإنفاق وقيل معناه: وأحسنوا في أداء فرائض الله تعالى {إن الله يحب المحسنين} أي يثيبهم على إحسانهم.